عِمَامَةُ الْخَفَاءِ وَدُكَّانُ الْبَرَكَةِ: رِحْلَةُ مَيْمُونٍ مِنْ الْفَقْرِ وَالْمَكِيدَةِ إِلَى الْعِزِّ وَالسَّعَادَةِ.
وَكَانَ يَعِيشُ عِيشَةً هَانِئَةً رَغْمَ فَقْرِهِ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ، إِلَى أَنْ جَاءَ الْيَوْمُ الَّذِي سَتَنْتَقِلُ فِيهِ أُمُّ زَوْجَتِهِ لِتَعِيشَ مَعَهُمْ فِي بَيْتِهِ، فَصَارَتْ تَتَدَخَّلُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ لِتُغِيظَ مَيْمُونَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَرْقَى فِي نَظَرِهَا لِلْمَكَانَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ ابْنَتَهَا أَنْ تَعِيشَ فِيهَا، لَكِنَّ مَيْمُونًا كَانَ فَطِنًا بِخُطَّتِهَا الَّتِي تَرُومُ بِهَا تَطْلِيقَهُ مِنْ ابْنَتِهَا لِتُزَوِّجَهَا بَعْدَهَا لِشَخْصٍ غَنِيٍّ يَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهَا وَقِيمَتِهَا أَمَامَ النَّاسِ، لِذَلِكَ كَانَ مَيْمُونٌ شَدِيدَ الْحِرْصِ فِي تَعَامُلِهِ مَعَهَا، وَلَمْ تَكُنْ حَمَاةُ مَيْمُونَ مُشْكِلَتَهُ الْوَحِيدَةَ، فَلَقَدْ كَانَ لَهُ أَخَوَانِ شَقِيقَانِ مِنَ الْأَبِ، سَعْدُونُ وَحَمْدُونُ، وَكَانَا يَكْرَهَانِهِ كُرْهًا شَدِيدًا وَيَنْتَظِرَانِ أَيَّ فُرْصَةٍ سَانِحَةٍ لِإِيذَائِهِ وَإِذْلَالِهِ، رَغْمَ أَنَّ مَيْمُونَ لَمْ يُؤْذِهِمَا قَطُّ، بَلْ وَعَلَى الْعَكْسِ كَانَ يُعَامِلُهُمَا مُعَامَلَةً حَسَنَةً، وَيَدْعُو اللَّهَ دَائِمًا لَهُمَا بِالْهِدَايَةِ، وَكَانَ الشَّقِيقَانِ يَحْسُدَانِ مَيْمُونَ لِأَنَّهُ كَانَ عَزِيزًا عَلَى عَمِّهِمْ عَاصِمٍ، وَكَانَ عَمُّهُمْ غَنِيًّا فَاحِشَ الثَّرَاءِ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبْنَاءٌ، وَرَغْمَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ زِيَارَاتُ مَيْمُونَ لَهُ بِدَافِعِ الطَّمَعِ وَالتَّصَنُّعِ كَشَقِيقَيْهِ، بَلْ كَانَ يَبْغِي بِهَا صِلَةَ الرَّحِمِ الَّتِي أَوْصَانَا بِهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ الْعَمُّ مُوقِنًا بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَعُزُّهُ أَكْثَرَ مِنْ شَقِيقَيْهِ سَعْدُونَ وَحَمْدُونَ.
وَذَاتَ يَوْمٍ مَرِضَ الْعَمُّ عَاصِمٌ وَأَصْبَحَ طَرِيحَ الْفِرَاشِ لَا يُغَادِرُهُ، وَلَمْ يَعُدِ الشَّقِيقَانِ يَصِلَانِهِ بَعْدَ أَنْ أَفْقَدَهُ الْمَرَضُ إِدْرَاكَهُ وَصَارَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ، عَكْسَ مَيْمُونَ الَّذِي اسْتَمَرَّ بِزِيَارَتِهِ لَهُ وَالْعِنَايَةِ بِهِ. مَاتَ الْعَمُّ وَأُحْضِرَتْ وَصِيَّتُهُ وَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِهِ، فَاكْتَشَفَ مَيْمُونٌ أَنَّ عَمَّهُ أَوْصَى بِكُلِّ مَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ لِسَعْدُونَ وَحَمْدُونَ مُنَاصَفَةً، أَمَّا هُوَ فَقَدْ ذَكَرَهُ عَمُّهُ فِي آخِرِ الْوَصِيَّةِ قَائِلًا: "وَلَقَدْ تَرَكْتُ لِابْنِ أَخِي الْعَزِيزِ مَيْمُونَ دُكَّانِي الصَّغِيرَ فِي السُّوقِ بِكُلِّ مُتَعَلِّقَاتِهِ، مُتَمَنِّيًا مِنَ اللَّهِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ أَحْسَنَ اسْتِخْدَامٍ، وَالسَّلَامُ". فَلَمَّا سَمِعَ الشَّقِيقَانِ مَا جَاءَتْ بِهِ وَصِيَّةُ عَمِّهِمَا أَصَابَهُمَا الذُّهُولُ مِنْ تَصَرُّفِهِ الَّذِي لَمْ يَكُونَا يَتَوَقَّعَانِ، وَبِأَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمَا كُلَّ أَمْلَاكِهِ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ سَخِرَا مِنْ مَيْمُونَ وَالدُّكَّانِ الصَّغِيرِ الَّذِي تَرَكَهُ لَهُ عَمُّهُ وَالَّذِي لَا يُسَاوِي أَيَّ قِيمَةٍ وَلَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ. أَمَّا زَوْجَةُ مَيْمُونَ فَقَدِ اسْتَنْكَرَتْ فِعْلَ عَمِّهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَيَقِّنَةً أَنَّ زَوْجَهَا أَحَقُّ بِتِلْكَ التَّرِكَةِ مِنْ شَقِيقَيْهِ لِأَنَّ مَيْمُونَ هُوَ مَنْ اعْتَنَى بِهِ وَسَانَدَهُ فِي حَيَاتِهِ وَفِي آخِرِ أَيَّامِهِ. ابْتَسَمَ مَيْمُونٌ وَأَخْبَرَ زَوْجَتَهُ أَنَّهَا أَمْلَاكُ عَمِّهِ، هُوَ حُرٌّ يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَزُورُهُ وَيَعْتَنِي بِهِ مِنْ أَجْلِ مَالِهِ، بَلْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَزَّةً فِيهِ وَطَمَعًا فِي رِضَى اللَّهِ، ثُمَّ أَضَافَ قَائِلًا: "لَعَلَّ الدُّكَّانَ الصَّغِيرَ الَّذِي تَرَكَهُ لَنَا الْعَمُّ يَطْرَحُ اللَّهُ لَنَا فِيهِ الْبَرَكَةَ وَيَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي ظَفَرَ بِهَا شَقِيقَايَ". فَلَمَّا عَادَ مَيْمُونٌ وَزَوْجَتُهُ لِبَيْتِهِ مَا إِنْ انْهَالَتْ عَلَيْهِ حَمَاتُهُ بِالِانْتِقَادَاتِ وَالتَّبْخِيسِ مِنْ شَأْنِهِ وَادَّعَتْ أَنَّهُ زَوْجٌ فَاشِلٌ وَلَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ وَقَلِيلُ الْحِيلَةِ وَلَيْسَ كَشَقِيقَيْهِ الذَّكِيَّيْنِ. لَمْ يَأْبَهْ مَيْمُونٌ لِكَلَامِهَا وَانْصَرَفَ إِلَى حَالِهِ.
وَفِي الْيَوْمِ الْمُوَالِي صَارَ مَيْمُونٌ يَقْصِدُ دُكَّانَهُ الصَّغِيرَ الَّذِي صَارَ فِي مُلْكِهِ، فَلَمَّا فَتَحَهُ وَجَدَ الْغُبَارَ يُغَطِّي كُلَّ شَيْءٍ بِالْمَكَانِ، وَكَانَ كُلَّمَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَثَاثِ تَهَشَّمَ وَانْكَسَرَ بِسَبَبِ قِدَمِهِ، لَكِنَّهُ لَمَحَ ثَوْبًا أَبْيَضَ يُغَطِّي شَيْئًا مَا فِي زَاوِيَةِ الدُّكَّانِ، فَلَمَّا أَزَالَ الثَّوْبَ وَجَدَهَا عِمَامَةَ عَمِّهِ الزَّعْفَرَانِيَّةَ اللَّوْنِ، وَكَانَتْ مَا تَزَالُ سَلِيمَةً كَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ، فَاحْتَفَظَ بِهَا جَانِبًا وَنَظَّفَ الدُّكَّانَ مِنْ كُلِّ الْأَثَاثِ الْقَدِيمِ وَالْمُتَهَالِكِ، وَقَرَّرَ أَنْ يَتْرُكَ مِهْنَتَهُ كَحَمَّالٍ وَيَسْتَغِلَّ الدُّكَّانَ فِي تِجَارَةٍ بَسِيطَةٍ تُدِرُّ عَلَيْهِ مَدْخُولًا يَسِيرًا، وَمَلَأَ الدُّكَّانَ بِالْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ لِأَنَّهَا كَانَتِ التِّجَارَةَ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ لِمَعْرِفَةٍ مُسْبَقَةٍ وَلَا لِرَأْسِ مَالٍ كَبِيرٍ، وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَصَارَ يَعْمَلُ فِيهِ بِجِدٍّ وَكَدٍّ. وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ وَأَصْبَحَ اسْمُهُ مَعْرُوفًا فِي السُّوقِ بِسَبَبِ صِدْقِهِ وَجَوْدَةِ بِضَاعَتِهِ، وَصَارَ يَحْصُلُ مِنْ عَمَلِهِ الْجَدِيدِ عَلَى ضِعْفِ مَا كَانَ يَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ كَحَمَّالٍ.
وَذَاتَ يَوْمٍ تَفَاجَأَ بِشَقِيقِهِ سَعْدُونَ يَزُورُهُ فِي دُكَّانِهِ، فَدَخَلَ وَجَلَسَ دَاخِلَ الدُّكَّانِ، تَعَجَّبَ مَيْمُونٌ وَسَأَلَهُ: "مَا الَّذِي جَاءَ بِكَ؟" ضَحِكَ وَقَالَ: "مَا بِكَ هَكَذَا يَسْتَقْبِلُ الْأَخُ أَخَاهُ؟ عَلَى الْعُمُومِ لَقَدْ جِئْتُ لِأَشْتَرِيَ مِنْ عِنْدِ أَخِي بَعْضًا مِنَ الْفَوَاكِهِ، وَهَذَا ثَمَنُهَا". وَأَخْرَجَ صُرَّةَ نُقُودٍ مِنْ جَيْبِهِ وَأَعْطَى ثَمَنَ مَا اشْتَرَاهُ لِمَيْمُونَ وَغَادَرَ، وَصَارَ يَمُرُّ عَلَى الدُّكَّانِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَجْلِسُ بِهِ قَلِيلًا وَيَشْتَرِي مِنْ مَيْمُونَ بَعْضَ الْفَوَاكِهِ وَيُغَادِرُ. كَانَ مَيْمُونٌ مُتَيَقِّنًا أَنَّ شَقِيقَهُ يَنْوِي بِهِ شَرًّا، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ خُطَّتَهُ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ الشَّجَاعَةُ لِمُصَارَحَتِهِ بِذَلِكَ، وَكَانَ يُرَاقِبُهُ وَيُحَاذِرُ كُلَّمَا جَاءَهُ لِلدُّكَّانِ.
وَذَاتَ يَوْمٍ جَاءَ أَمِينُ الشُّرْطَةِ عِنْدَ مَيْمُونَ وَسَلَّمَهُ وَرَقَةً جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِفْرَاغُ الدُّكَّانِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْبَيْعِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِهِ، وَأُمِرَ لَهُ يَوْمَيْنِ لِيُفْرِغَ الدُّكَّانَ مِنْ بِضَاعَتِهِ. قَالَ مَيْمُونٌ: "لَكِنَّنِي أَنَا صَاحِبُهُ". وَأَسْرَعَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ خِزَانَةٍ كَانَ يَحْتَفِظُ بِأَوْرَاقِ مِلْكِيَّةِ الدُّكَّانِ دَاخِلَهَا، فَفَتَحَهَا فَلَمْ يَجِدِ الْأَوْرَاقَ، فَأَدْرَكَ أَنَّ سَعْدُونَ هُوَ مَنْ أَخَذَهَا، وَكَانَتْ خُطَّتُهُ أَنْ يَنْتَظِرَ حَتَّى يَنْشَغِلَ مَيْمُونٌ بِتِجَارَتِهِ، فَأَسْرَعَ وَفَتَحَ الْخِزَانَةَ وَأَخَذَ أَوْرَاقَ مِلْكِيَّةِ الدُّكَّانِ دُونَ أَنْ يَلْحَظَ مَيْمُونٌ ذَلِكَ. وَالْآنَ لَمْ يَعُدْ لِمَيْمُونَ شَيْءٌ يُثْبِتُ بِهِ أَنَّ الدُّكَّانَ فِي مُلْكِهِ. أَغْلَقَ الدُّكَّانَ وَسَارَ نَحْوَ بَيْتِهِ وَدَخَلَ غُرْفَتَهُ وَأَقْفَلَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَجَلَسَ يُفَكِّرُ فِي الْوَرْطَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا وَالَّتِي لَمْ تَكُنْ لِتَحْدُثَ لَوْلَا طِيبَتُهُ الزَّائِدَةُ وَعَدَمُ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِ شَقِيقِهِ الْمُتَسَلِّطِ مِنَ الِاقْتِرَابِ مِنْهُ وَمِنْ دُكَّانِهِ.
وَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ يُفَكِّرُ لَمَحَ عِمَامَةَ عَمِّهِ مُعَلَّقَةً عَلَى الْحَائِطِ، فَحَمَلَهَا وَصَارَ يَشْكُو هَمَّهُ وَيَقُولُ: "يَا لَيْتَكَ مَا زِلْتَ حَيًّا يَا عَمُّ لِتَشْهَدَ عَلَى فِعْلِ شَقِيقِي الَّذِي وَهَبْتَهُ كُلَّ أَمْلَاكِكَ، فَلَرُبَّمَا كُنْتَ سَتُغَيِّرُ رَأْيَكَ بِهِ حِينَئِذٍ". قَالَهَا وَلَمْ يَشْعُرْ بِنَفْسِهِ إِلَّا وَهُوَ يَضَعُ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ، وَمَا إِنْ وَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى خَرَّ فِي مَكَانِهِ وَغَطَّ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ. وَبَيْنَمَا هُوَ يَغُطُّ فِي نَوْمِهِ رَاوَدَهُ حُلْمٌ غَرِيبٌ، رَأَى فِيهِ عَمَّهُ وَهُوَ يُرَبِّتُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ لَهُ: "لَقَدْ تَرَكْتُ لَكَ عِنَايَةَ اللَّهِ وَهَذِهِ الْعِمَامَةَ إِنْ أَنْتَ أَحْسَنْتَ اسْتِعْمَالَهَا كَمَا فَعَلْتُ أَنَا". وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٌ حَتَّى اسْتَفَاقَ مَيْمُونٌ مِنْ حُلْمِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ حُلْمٌ لَا غَيْرُ وَأَنَّهُ فَقَدَ وَعْيَهُ بِسَبَبِ تَأَثُّرِهِ بِمَا حَدَثَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَبَيْنَمَا يَسْتَعِدُّ لِيَقُومَ مِنْ مَكَانِهِ وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى الْمِرْآةِ فَلَمْ يَرَ انْعِكَاسَهُ عَلَيْهَا، فَاقْتَرَبَ مِنَ الْمِرْآةِ لِيَتَأَكَّدَ مِمَّا رَآهُ، ثُمَّ أَحْضَرَ زَهْرِيَّةً وَوَقَفَ أَمَامَ الْمِرْآةِ فَظَهَرَ انْعِكَاسُ الْمَزْهَرِيَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ انْعِكَاسُهُ هُوَ. وَهُنَا تَذَكَّرَ مَيْمُونٌ كَلَامَ عَمِّهِ فِي الرُّؤْيَةِ الَّتِي رَآهَا فَأَزَالَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَإِذَا بِانْعِكَاسٍ يَظْهَرُ عَلَى الْمِرْآةِ، وَهُنَا تَيَقَّنَ مَيْمُونٌ مِنْ أَنَّ الْعِمَامَةَ تَمْلِكُ قُدْرَةً عَجِيبَةً تَجْعَلُ مَنْ يَرْتَدِيهَا يَخْتَفِي عَنِ الْأَنْظَارِ وَيُصْبِحُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ لِلْآخَرِينَ، وَعَلِمَ أَنَّذَاكَ أَنَّ عَمَّهُ لَمْ يُؤْثِرْ شَقِيقَيْهِ عَلَيْهِ بَلْ فَضَّلَهُ عَنْهُمَا بِتَمْلِيكِهِ تِلْكَ الْعِمَامَةَ الْعَجِيبَةَ. وَلِيَتَأَكَّدَ مِنْ صِحَّةِ مَا خَلُصَ إِلَيْهِ ارْتَدَى الْعِمَامَةَ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ زَوْجَتِهِ الَّتِي كَانَتْ مُنْشَغِلَةً فِي أَشْغَالِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا حَمَلَ جَرَّةً صَغِيرَةً وَأَسْقَطَهَا فَتَكَسَّرَتْ، فَالْتَفَتَتِ الزَّوْجَةُ جِهَةَ الْجَرَّةِ الْمَكْسُورَةِ فَلَمْ تَرَ مَيْمُونَ فَظَنَّتْ أَنَّهُ عَمَلٌ مِنَ الْجِنِّ فَفَرَّتْ مَرْعُوبَةً وَهِيَ تَتَعَوَّذُ مِنَ الْجِنِّ، وَهُنَا تَأَكَّدَتْ شُكُوكُ مَيْمُونَ بِأَنَّ الْعِمَامَةَ هِيَ عِمَامَةٌ عَجِيبَةٌ تُخْفِي أَيَّ شَخْصٍ ارْتَدَاهَا. ثُمَّ تَذَكَّرَ وَاقِعَتَهُ مَعَ شَقِيقِهِ وَالدُّكَّانِ الَّذِي سَلَبَهُ مِنْهُ فَأَسْرَعَ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ وَهُوَ مُرْتَدٍ عِمَامَةَ التَّخَفِّي، ثُمَّ تَسَلَّلَ إِلَى دَاخِلِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَوَجَدَ فَوْقَ طَاوِلَةِ الْقَاضِي وَرَقَةً تُشْبِهُ وَرَقَةَ مِلْكِيَّةِ دُكَّانِهِ لَكِنَّهَا بِاسْمِ شَقِيقِهِ سَعْدُونَ وَبِخَتْمِ الْقَاضِي نَفْسِهِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ مُتَوَاطِئٌ مَعَ شَقِيقِهِ سَعْدُونَ، فَأَخَذَ تِلْكَ الْوَرَقَةَ وَصَارَ يَبْحَثُ عَنِ الْوَرَقَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَحْمِلُ اسْمَهُ هُوَ، فَبَحَثَ وَبَحَثَ لَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْهَا، ثُمَّ اتَّخَذَ زَاوِيَةً فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ مُسْتَرَاحًا لَهُ رَيْثَمَا يَقْدَمُ الْقَاضِي. فَلَمَّا جَاءَ الْقَاضِي وَجَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ لَمْ يَجِدِ الْوَرَقَةَ الَّتِي زَوَّرَهَا فَأَرَادَ الْوُقُوفَ لِلْبَحْثِ عَنْهَا، فَتَفَاءَلَ عُنُقُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَصْرُخَ أَوْ يَتَحَرَّكَ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْتًا يَقُولُ: "أَنَا الْجِنِّيُّ حَارِسُ الْوَرَقَةِ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنَ الدُّكَّانِ، وَسَأُمْهِلُكَ إِلَى ظُهْرِ يَوْمِ غَدٍ، فَإِنْ لَمْ تُعِدِ الْوَرَقَةَ إِلَى مَكَانِهَا فَسَأُسْرِعُ إِلَيْكَ وَأَقْبِضُ رُوحَكَ". ثُمَّ تَرَكَهُ وَغَادَرَ. اسْتَدَارَ الْقَاضِي مُبَاشَرَةً يَبْحَثُ عَنِ الْفَاعِلِ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فَصَدَّقَ وَانْطَلَتْ حِيلَةُ مَيْمُونَ عَلَيْهِ، فَأَسْرَعَ وَأَمَرَ خَادِمَهُ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى سَعْدُونَ وَمَيْمُونَ، فَلَمَّا حَضَرَا أَخْرَجَ الْقَاضِي وَرَقَةَ مِلْكِيَّةِ الدُّكَّانِ الْأَصْلِيَّةَ وَأَعْطَاهَا لِمَيْمُونَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْجُنُودَ أَمْسَكُوا بِسَارِقِ دُكَّانِهِ وَقَدْ وَجَدُوا الْوَرَقَةَ مَعَهُ، وَقَالَ لَهُ: "هَا هِيَ وَرَقَةُ مِلْكِيَّةِ دُكَّانِكَ قَدْ عَادَتْ إِلَيْكَ". ثَارَتْ ثَائِرَةُ سَعْدُونَ وَانْقَضَّ عَلَى الْقَاضِي يَخْنُقُهُ لِأَنَّهُ نَقَضَ اتِّفَاقَهُمَا وَغَدَرَ بِهِ، لَكِنَّ الْجُنُودَ مَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَبَّلُوهُ. وَرَغْمَ أَنَّ مَيْمُونَ حَاوَلَ التَّوَسُّطَ لَهُ لِيُسَامِحَ الْقَاضِي شَقِيقَهُ إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ كَانَ مُصِرًّا عَلَى إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ لِئَلَّا يَفْضَحَ تَوَاطُؤَهُ مَعَهُ أَمَامَ عَامَّةِ النَّاسِ.
وَفِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ كَانَتْ حَمَاةُ مَيْمُونَ تَزُورُ أَحَدَ الْمُشَعْوِذِينَ الْكِبَارِ لِتَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَقُومَ بِعَمَلِ تَعْوِيذَةٍ تُخَلِّصُهَا مِنْ مَيْمُونَ زَوْجِ ابْنَتِهَا لِتُزَوِّجَهَا لِأَحَدِ كِبَارِ أَغْنِيَاءِ الْبَلْدَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهَا السَّاحِرُ: "هَذَانِ طَلَبَانِ وَلَيْسَ طَلَبًا وَاحِدًا وَهُمَا صَعْبَانِ لِلْغَايَةِ". فَتَرَجَّتْهُ وَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا مُسْتَعِدَّةٌ لِأَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبُهُ مُقَابِلَ أَنْ يُحَقِّقَ لَهَا رَغْبَتَهَا. أَطْرَقَ السَّاحِرُ رَأْسَهُ قَلِيلًا ثُمَّ سَأَلَهَا إِنْ كَانَ لِزَوْجِ ابْنَتِهَا أَبْنَاءٌ، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ ابْنَةً صَغِيرَةً اسْمُهَا دُرَّةُ، فَطَلَبَ مِنْهَا أَنْ تَنْصَرِفَ سَاعَتَهَا عَلَى أَنْ تَصْطَحِبَ مَعَهَا الْبِنْتَ الصَّغِيرَةَ فِي زِيَارَتِهَا الْقَادِمَةِ. ظَهَرَتْ مَلَامِحُ الْقَلَقِ وَالتَّوَتُّرِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَى السَّاحِرُ ذَلِكَ طَمْأَنَهَا وَأَخْبَرَهَا بِأَنَّهَا سَتَكُونُ بِأَمَانٍ وَسَتَرْجِعُ مَعَهَا فِي نَفْسِ الْيَوْمِ. وَفِي الْيَوْمِ الْمُوَالِي ذَهَبَتِ الْحَمَاةُ عِنْدَ السَّاحِرِ وَهِيَ تَصْحَبُ مَعَهَا حَفِيدَتَهَا دُرَّةَ بَعْدَ أَنْ أَغْرَتْهَا بِتَرْكِهِمَا. جَلَسَ السَّاحِرُ جَالِسًا وَاتَّخَذَ رُكْنًا مِنَ الْبَيْتِ وَصَارَ يَقْرَأُ تَعَاوِيذَ وَطَلَاسِمَهُ لِيَسْتَحْضِرَ بِهَا خَدَمَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَسْحُوقًا مِنْ كِيسٍ وَنَثَرَهُ فَوْقَ الْجَدَّةِ وَحَفِيدَتِهَا فَخَرَّ مَغْمِيًّا عَلَيْهِمَا. وَبَعْدَ مُدَّةٍ اسْتَيْقَظَتِ الْجَدَّةُ عَلَى صَوْتِ نُبَاحِ الْكِلَابِ فَوَجَدَتْ نَفْسَهَا مُلْقَاةً وَسَطَ كُومَةِ أَزْبَالٍ، فَصَارَتْ تَصْرُخُ وَتُوَلْوِلُ وَتُنَادِي عَلَى حَفِيدَتِهَا دُرَّةَ، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْمَارَّةُ اسْتَدَلُّوا عَنْ بَيْتِهَا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ، فَحَضَرَ مَيْمُونٌ وَحَكَتْ لَهُ مَا صَارَ مَعَهَا وَمَعَ ابْنَتِهِ، لَكِنَّهَا لَمْ تُصَارِحْهُ بِالْحَقِيقَةِ بَلْ ادَّعَتْ أَنَّ أَشْخَاصًا اخْتَطَفُوهَا وَحَفِيدَتَهَا وَاقْتَادُوهُمْ لِبَيْتٍ وَقَامُوا بِتَخْدِيرِهِمَا وَلَمْ تَعِ بِنَفْسِهَا إِلَّا وَهِيَ مَرْمِيَّةٌ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ. فَاسْتَفْسَرَ عَنِ الْبَيْتِ الَّذِي قَادُوا إِلَيْهِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا تَتَذَكَّرُ فَقَطْ مَلَامِحَ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَوَصَفَتْ لَهُ مَلَامِحَ السَّاحِرِ وَاقْتَادَتْهُ نَحْوَ بَيْتِهِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْبَيْتِ وَدَاهَمُوهُ لَمْ يَجِدُوا أَحَدًا هُنَاكَ. أَسْرَعَ مَيْمُونٌ نَحْوَ بَيْتِهِ وَدَخَلَ غُرْفَتَهُ وَحَمَلَ الْعِمَامَةَ الْعَجِيبَةَ وَقَالَ: "إِنَّهَا الْوَحِيدَةُ وَفِلْذَةُ كَبِدِي وَقُرَّةُ عَيْنِي، وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْكِ أَيَّتُهَا الْعِمَامَةُ الْعَجِيبَةُ أَنْ تُسَاعِدِينِي هَذِهِ الْمَرَّةَ وَفَقَطْ". فَارْتَدَاهَا وَدَخَلَ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ، وَبَدَا لَهُ فِي الْحُلْمِ أَنَّ ابْنَتَهُ مُكَبَّلَةٌ دَاخِلَ قَبْوٍ فِي بَيْتٍ يَقَعُ وَسَطَ الْبَلْدَةِ، وَبَدَتْ لَهُ طَرِيقُ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَاضِحَةً فِي الْحُلْمِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَمَلَ الْعِمَامَةَ وَصَارَ يَقْصِدُ ذَلِكَ الْبَيْتَ، فَلَمَّا وَصَلَ هُنَاكَ ارْتَدَى الْعِمَامَةَ وَأَشْعَلَ نَارًا قَرِيبًا مِنْ بَابِ ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٌ حَتَّى فُتِحَ الْبَابُ وَخَرَجَ مِنْهُ رَجُلٌ أَوْصَافُهُ مُطَابِقَةٌ لِلْوَصْفِ الَّذِي أَخْبَرَتْهُ بِهِ حَمَاتُهُ، فَرَاحَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يُطْفِئُ اللَّهَبَ الْمُشْتَعِلَ، فَاسْتَغَلَّ مَيْمُونٌ الْوَضْعَ وَانْسَلَّ إِلَى دَاخِلِ الْبَيْتِ وَهُوَ مُرْتَدٍ الْعِمَامَةَ، ثُمَّ نَزَلَ الْقَبْوَ الْمُظْلِمَ وَوَجَدَ ابْنَتَهُ مُقَيَّدَةً فَفَكَّ وِثَاقَهَا وَعَانَقَهَا وَقَبَّلَهَا وَالْأَرْضُ لَا تَسَعُهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وَحَكَتْ لَهُ كُلَّ مَا حَدَثَ مِنْ بِدَايَةِ اصْطِحَابِهَا مِنْ طَرَفِ جَدَّتِهَا لِبَيْتٍ غَرِيبٍ وَالطُّقُوسِ الَّتِي كَانَ يُمَارِسُهَا ذَلِكَ الشَّخْصُ الْغَرِيبُ وَالْأَشْبَاحِ الْمُرْعِبَةِ، فَأَدْرَكَ مَيْمُونٌ أَنَّ حَمَاتَهُ لَهَا يَدٌ فِي الْأَمْرِ كَمَا كَانَ يَظُنُّ. ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ شَخْصٍ دَاخِلَ الْبَيْتِ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: "لَقَدْ نَفَّذْتُ مَا طَلَبْتَهُ مِنِّي وَاخْتَطَفْتُ الطِّفْلَةَ فَأَيْنَ مُكَافَأَتِي؟" فَرَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ قَائِلًا: "هَذِهِ مُكَافَأَتُكَ فَلَقَدْ قُمْتَ بِعَمَلِكَ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَالْآنَ قُدْنِي إِلَيْهَا". تَفَاجَأَ مَيْمُونٌ لِأَنَّ صَوْتَ أَحَدِهِمَا يَعُودُ لِشَقِيقِهِ حَمْدُونَ بِلَا شَكٍّ، أَمَّا الْآخَرُ فَأَدْرَكَ أَنَّهُ بِالتَّأْكِيدِ السَّاحِرُ. وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ فُتِحَ بَابُ السِّرْدَابِ وَكَانَ السَّاحِرُ يُرَافِقُ حَمْدُونَ لِيُسَلِّمَهُ الْفَتَاةَ، فَارْتَدَى مَيْمُونٌ الْعِمَامَةَ وَصَعِدَ سُلَّمَ الْقَبْوِ بِهُدُوءٍ وَانْسَلَّ خَلْفَهُمَا وَدَفَعَ السَّاحِرَ دَفْعَةً قَوِيَّةً سَقَطَ عَلَى إِثْرِهَا وَتَدَحْرَجَ عَلَى سُلَّمِ الْقَبْوِ حَتَّى وَصَلَ آخِرَهُ وَكَادَ أَنْ يَنْدَقَّ عُنُقُهُ لَوْلَا أَنَّهُ احْتَمَى بِكِلْتَا يَدَيْهِ فَانْكَسَرَ إِحْدَى يَدَيْهِ. قَامَ السَّاحِرُ غَاضِبًا وَقَالَ: "آهَكَذَا تُرِيدُ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنِّي لِتَطْمَئِنَّ؟" رَدَّ عَلَيْهِ حَمْدُونُ وَالدَّهْشَةُ تَكَادُ تَعْقِدُ لِسَانَهُ: "أَنَا لَمْ أَدْفَعْكَ لِتَسْقُطَ وَلَمْ أَلْمَسْكَ حَتَّى وَأُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ". صَاحَ السَّاحِرُ: "أُخْرُسْ أَيُّهَا الْكَاذِبُ فَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ غَيْرُنَا أَنَا وَأَنْتَ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَسَأَنْتَقِمُ مِنْكَ حَالًا بِكُلِّ مَا أُوتِيتُهُ مِنْ سِحْرٍ". فَأَدْخَلَ السَّاحِرُ يَدَهُ يَبْغِي إِخْرَاجَ تَعْوِيذَةٍ يَسْحَرُ بِهَا حَمْدُونَ وَهُوَ يُرَدِّدُ كَلَامًا وَطَلَاسِمَ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ، فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ حَمْدُونُ وَانْقَضَّ عَلَيْهِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ إِلْقَاءِ سِحْرِهِ عَلَيْهِ وَاشْتَبَكَا يُصَارِعَانِ بَعْضَهُمَا، فَاسْتَغَلَّ مَيْمُونٌ الْوَضْعَ وَحَمَلَ ابْنَتَهُ وَانْسَلَّ مُبْتَعِدًا خَارِجَ الْبَيْتِ وَأَزَالَ الْعِمَامَةَ فَرَأَى دَوْرِيَّةً مِنَ الْحَرَسِ تَجُوبُ الْمَكَانَ بَحْثًا عَنِ ابْنَتِهِ، فَنَادَى عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ اخْتِطَافِ ابْنَتِهِ وَتَقْيِيدِهَا فِي قَبْوِ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ، فَحَاصَرَ الْحَرَسُ الْبَيْتَ وَأَرَادُوا مُدَاهَمَتَهُ. وَفَجْأَةً فُتِحَ بَابُ الْبَيْتِ وَخَرَجَ مِنْهُ حَمْدُونُ وَكَانَ يُشْهِرُ سَيْفَهُ وَيَمْشِي مِشْيَةً غَرِيبَةً جِدًّا، فَأَمَرَهُ الْحَرَسُ أَنْ يُلْقِيَ بِسِلَاحِهِ وَيُسَلِّمَ نَفْسَهُ، لَكِنَّ حَمْدُونَ كَانَ مَا يَزَالُ يَتَوَجَّهُ بِسَيْفِهِ نَحْوَ الْحَرَسِ، فَرَمَوْهُ بِسَهْمٍ أَصَابَ سَاقَهُ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَيُّ تَأَثُّرٍ بِإِصَابَتِهِ بَلْ وَمَا زَالَ يَتَوَجَّهُ نَحْوَهُمْ، ثُمَّ رَمَوْهُ بِسَهْمٍ ثَانٍ أَصَابَ كَتِفَهُ لَكِنْ دُونَ جَدْوَى وَكَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يُصِبْهُ، فَقَرَّرُوا أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ الْأَخِيرُ فِي صَدْرِهِ. وَعِنْدَ سَمَاعِ مَيْمُونَ لِذَلِكَ أَسْرَعَ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَقِيقِهِ وَمَنَعَهُمْ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِالتَّنَحِّي فَرَفَضَ أَمْرَهُمْ وَقَالَ: "أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ مُسْتَحْوَذٌ عَلَيْهِ مِنْ طَرَفِ رُوحٍ شَيْطَانِيَّةٍ بِفِعْلِ السَّاحِرِ؟" ثُمَّ الْتَفَتَ نَحْوَ أَخِيهِ حَمْدُونَ وَقَالَ: "هَذَا أَنَا أَخُوكَ مَيْمُونُ أَلَمْ تَتَعَرَّفْ إِلَيَّ؟" رَفَعَ حَمْدُونُ سَيْفَهُ وَظَنَّ الْجَمِيعُ أَنَّهُ سَيَضْرِبُ بِهِ أَخَاهُ مَيْمُونَ، لَكِنَّ يَدَهُ تَجَمَّدَتْ بِفِعْلِ التَّخَبُّطِ وَالصِّرَاعِ الدَّاخِلِيِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّوحِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي امْتَلَكَتْهُ وَيُحَاوِلُ رَدْعَهَا عَنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَأَخِيرًا خَرَجَ مِنْ رَأْسِ حَمْدُونَ دُخَانٌ أَبْيَضُ فَأَفَلَّ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ وَخَرَّ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ فَاقِدُ الْوَعْيِ فَتَلَقَّفَهُ مَيْمُونٌ وَطَلَبَ لَهُ مَنْ يُسْعِفُهُ. وَأَثْنَاءَ ذَلِكَ كَانَ الْمَكَانُ قَدْ عَجَّ بِالْحَاضِرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَشْهَدُوا وَاقِعَةَ الْقَبْضِ عَلَى مُخْتَطِفِ الطِّفْلَةِ وَهُوَ السَّاحِرُ الَّذِي مَا زَالَ يَخْتَبِئُ دَاخِلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتْ حَمَاةُ مَيْمُونَ حَاضِرَةً وَمُخْتَبِئَةً بَيْنَ الْحُشُودِ تَنْتَظِرُ لَحْظَةَ ظُهُورِ السَّاحِرِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْشَى انْكِشَافَ أَمْرِهَا عِنْدَمَا يَتِمُّ الْقَبْضُ عَلَيْهِ. وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٌ حَتَّى تَمَّ الْقَبْضُ عَلَى السَّاحِرِ مِنْ قِبَلِ الْحُرَّاسِ، وَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَادُونَهُ هَجَمَتْ عَلَيْهِ الْعَجُوزُ عَلَى حِينِ غِرَّةٍ وَطَعَنَتْهُ فِي صَدْرِهِ عِدَّةَ طَعَنَاتٍ وَهِيَ تُرَدِّدُ وَتَصْرُخُ: "مُتْ أَيُّهَا الْقَذِرُ، مَاذَا فَعَلْنَا لَكَ لِتُرَوِّعَنَا وَتَخْتَطِفَ؟" وَبَيْنَمَا تُفَارِقُ الرُّوحُ جَسَدَ السَّاحِرِ ضَحِكَ ضَحْكَةً غَرِيبَةً وَمُرْعِبَةً وَتَمْتَمَ بِكَلِمَاتٍ غَرِيبَةٍ فَظَهَرَ ذَلِكَ الدُّخَانُ مِنْ جَدِيدٍ وَدَخَلَ رَأْسَ الْعَجُوزِ مِنْ عَيْنَيْهَا وَأُذُنَيْهَا وَأَنْفِهَا، فَوَقَفَتْ وَانْتَصَبَتْ كَانْتِصَارِ قُوَّةٍ، ثُمَّ صَارَتْ تَرْكُضُ رَكْضًا غَرِيبًا كَأَنَّهَا حَيَوَانٌ يَجْرِي عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْجُلٍ أَمَامَ دَهْشَةِ مَيْمُونَ وَجَمِيعِ الْحَاضِرِينَ، فَتَبِعَهَا الْجَمِيعُ وَهِيَ تَرْكُضُ حَتَّى بَلَغَتْ جِسْرًا شَاهِقَ الْعُلُوِّ ثُمَّ رَمَتْ بِنَفْسِهَا مِنْهُ وَفَارَقَتِ الْحَيَاةَ. وَبَعْدَ إِسْعَافِ حَمْدُونَ تَمَّ اقْتِيَادُهُ لِلسِّجْنِ وَوُضِعَ فِي الزِّنْزَانَةِ حَيْثُ يَتَوَاجَدُ شَقِيقُهُ سَعْدُونَ.
وَبَعْدَ مُرُورِ بِضْعَةِ أَيَّامٍ جَاءَ مُرْسُولٌ عِنْدَ مَيْمُونَ وَأَبْلَغَهُ أَنَّ شَقِيقَيْهِ يُرِيدَانِ مُقَابَلَتَهُ لِإِخْبَارِهِ بِشَيْءٍ مَا، فَذَهَبَ عِنْدَهُمَا لِلسِّجْنِ وَهُنَاكَ تَحَدَّثَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْأَكْبَرُ سَعْدُونَ وَهُوَ يَعْتَصِرُ مِنَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ قَائِلًا: "أَنَا وَأَخِي حَمْدُونُ نَادِمَيْنِ أَشَدَّ النَّدَمِ عَلَى مَا اقْتَرَفْنَاهُ فِي حَقِّكَ طِيلَةَ حَيَاتِنَا، وَلَنْ نَنْسَى وُقُوفَكَ مَعَنَا رَغْمَ كُلِّ مَا فَعَلْنَاهُ مَعَكَ، وَكَيْفَ أَنَّكَ حَاوَلْتَ أَنْ تَتَدَخَّلَ سَاعَةَ تَهَجُّمِي عَلَى الْقَاضِي لِيَعْفُوَ عَنِّي وَيُخْلِيَ سَبِيلِي وَأَنَا الَّذِي كُنْتُ أَسْعَى سَاعَتَهَا لِأَسْلُكَكَ، وَكَذَلِكَ مَا سَمِعْتُهُ عَنْ شَجَاعَتِكَ فِي الدِّفَاعِ عَنْ حَمْدُونَ مِنْ نِبَالِ الْحَرَسِ سَاعَةَ حَاوَلُوا قَتْلَهُ عِنْدَمَا تَخَلَّى الْجَمِيعُ عَنْهُ. وَكَدَلِيلٍ عَلَى صِدْقِ تَوْبَتِنَا وَنَدَمِنَا فَلَقَدِ اتَّفَقْتُ وَحَمْدُونُ أَنْ نَتَنَازَلَ لَكَ عَنْ نِصْفِ ثَرْوَةِ عَمِّنَا وَسَنَكْتَفِي أَنَا وَأَخِي بِالنِّصْفِ الْآخَرِ، وَإِنْ أَرَدْتَ التَّأَكُّدَ فَسَتَجِدُ أَوْرَاقَ التَّنَازُلِ فَوْقَ مَكْتَبِ الْقَاضِي مَخْتُومَةً وَجَاهِزَةً، وَنَحْنُ نَأْمُلُ مِنْكَ أَنْ تُسَامِحَنَا وَتَتَجَاوَزَ عَنْ أَخْطَائِنَا". عَطَفَ مَيْمُونٌ مِنْ حَالِ أَخَوَيْهِ وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَقُّ مِنِّي بِتَوْبَتِكُمَا وَنَدَمِكُمَا فَلَعَلَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْكُمَا وَيَغْفِرُ لَكُمَا، أَمَّا أَنَا فَأُشْهِدُ اللَّهَ أَنِّي قَدْ سَامَحْتُكُمَا وَلَمْ يَعُدْ فِي قَلْبِي غِلٌّ تُجَاهَكُمَا لَعَلَّ اللَّهَ يَحْتَسِبُهَا لِي حَسَنَةً يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ". عَادَ مَيْمُونٌ إِلَى بَيْتِهِ وَأَمْسَكَ بِالْعِمَامَةِ وَقَالَ: "لَدَيَّ الْآنَ زَوْجَةٌ صَالِحَةٌ وَطِفْلَةٌ مُؤْنِسَةٌ وَمَالٌ حَلَالٌ وَلَدَيَّ الصَّفَاءُ وَرَاحَةُ الْبَالِ، فَمَاذَا أَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَلَا حَاجَةَ لِي بَعْدَ الْيَوْمِ لِارْتِدَائِكِ". ثُمَّ قَامَ بِوَضْعِ الْعِمَامَةِ فِي مَكَانٍ آمِنٍ وَغَطَّاهَا بِإِزَارٍ وَهُوَ يَقُولُ: "أَتَمَنَّى مِنَ اللَّهِ أَلَّا أُضْطَرَّ لِاسْتِعْمَالِهَا مَرَّةً أُخْرَى". إِلَى هُنَا تَنْتَهِي قِصَّتُنَا، أَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ الْحِكَايَةُ قَدْ نَالَتْ إِعْجَابَكُمْ